عبدالله النديم
هنالك قاعدة في كتابة التاريخ قلّ عنها الشذوذ، هي أنّ التاريخ لم يُكتب من وجهة نظر الحكّام فحسب، بل إنّه لم تُؤرّخ الأحداث الكبرى إلاّ بمنظور سياسيّ ـ عسكريّ ضيّق يهتمّ برَجل اللحظة من وجهة دعائيّة صرفة.ووفقاً لهذه القاعدة، فقد احتلّ الدرجة الثانية من سِفر التاريخ الضخم رجالٌ، ربّما لو أُعيدت صياغة التاريخ وفق ضوابط أكثر موضوعيّة، لكانوا أحقّ وأجدر بتصدّر الدرجة الأولى من سواهم.ومن هؤلاء الرجال الأفذاذ: « عبدالله النديم » ودوره في تاريخ مصر والعالم الإسلاميّ في أواخر القرن الميلاديّ المنصرم.
نشأة النديموُلد عبدالله النديم في مرحلة حسّاسة من الحياة السياسيّة في مصر كان الانجليز يمسكون فيها باقتصاد مصر ومصيرها، ويتلاعبون بمقدّراتها، وذلك في سنة 1845م. وهو من أب خبّاز رقيق الحال هاجر من « الشرقية » واستوطن « الاسكندريّة »، فعمل نجّاراً بدار صناعة السفن، ثمّ اتّخذ مخبزاً صغيراً يبيع فيه الخبز.وكان الأب يعرف بالادريسيّ الحَسَنيّ، لأنّ نسبه ينتهي إلى إدريس الأكبر من أسباط الإمام الحسن بن الإمام عليّ بن أبي طالب (1).وقد رغب الأب في أن يصبح ابنه هذا فقيهاً عالماً، فألحقه في سنة 1855 م بالجامع الأنور في الاسكندريّة، فأمضى النديم فيه خمس سنوات يحضر حلقات الفقه والنحو والصرف والأصول، ثمّ ضاق ذرعاً بأسلوب الدراسة، فاختطّ لنفسه طريقاً مغايراً بفعل علاقته بأستاذه الشيخ محمّد الهَمْشَري، وهو مجال الأدب ومطارحة الشعر والزَّجَل.
مخايل النبوغ والذكاءكانت قدرة النديم على الاستيعاب قدرة متميّزة، ومؤهّلاته في الابداع في أوجها وعنفوانها، فراح يغزو المجالس العامّة والخاصّة بزجله وشعره حتّى ذاعت شهرته، ولم تنفع محاولات والده في صدّه عمّا اختطّه لنفسه.ولجأ النديم ـ وقد نفض والده منه يده وتخلّى عنه ـ للبحث عن طريق للكسب، فتعلّم فنّ الاشارات التلّغرافيّة، فاستُخدم بمكتب التلغراف في « بَنْها »، ثمّ نُقل إلى مكتب القصر العالي في القاهرة، حيث تسكن والدة الخديوي إسماعيل، فعرف كيف يعيش الأمراء في ألوان النعيم والترف، كما عرف في بيته وحارثه في الاسكندريّة كيف يعيش الفقراء والعبيد (2).
بدايات الوعيساهمت أروقة السلاطين في تعميق تمرّده على الواقع، وهو الذي تعتمل في حناياه روح جدّه الكبير عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فتنقّل بين مجالس الأدب المختلفة، ثمّ وجد نفسه مشدوداً إلى الأزهر، فتتلمذ على كبار شيوخه وفقهائه ثمّ توثّقت الصلة بينه وبين أدباء مصر، وكتب رسائل في الأدب تُعدّ من روائع النثر (3)، وبقي النديم فترة من الزمن على هذه الحال، فهو في النهار تلغرافيّ يتقبّل الإشارات ويرسلها، وفي الليل أديب يتقبّل نماذج الأدب ويُحاكيها (4).
مع السيّد جمال الدينوقُيّض للنديم أن يكون أحد حواريّي السيّد جمال الدين الأفغاني بعد أن حطّ رحاله في القاهرة سنة 1871 م، فلازمه أربع سنوات كاملة، كان قطافها المرّ غضب القصر عليه وطرده عن وظيفته، فقصد ( المنصورة ) وأنشأ فيها متجراً لم يلبث أن أغلقه، ثمّ نزل على عُمدةٍ من عُمَد الدّقهليّة فأقام عنده يعلّم أولاده، ثمّ توسّط له أحد أصدقائه فعُيّن وكيلاً في دائرة حكوميّة، فأتاح له موقعه الجديد التردّد على القاهرة والعودة إلى مجالس السيّد جمال الدين، وكان السيّد قد تحوّل إلى داعية إلى الاصلاح الدينيّ، وثائر على الظلم الاجتماعيّ والاستبداد السياسيّ والتسلّط الأجنبيّ (5).والتحق النديم بظاهرة السيّد جمال الدين، وتشبّع بأفكارها الثوريّة، وأسَرَه اللهب الثوريّ الذي كان السيّد يُطلقه في هشيم الأوضاع الفاسدة.ولم يتردد النديم لحظة في تلبية طلب السيّد جمال الدين لمّا طلب منه التوجّه إلى الاسكندريّة للتبشير بمبادئ حزبه الجديد « حزب الاصلاح »، وليشارك في تحرير جريدتَي « مصر » و « التجارة »، وليساهم في فضح الحكم ومهازله، فانطلق إلى الاسكندريّة أوائل سنة 1879 م، وعاد إليها وهو أكثر خبرة بالحياة.
في المعتركعاد عبدالله النديم إلى الاسكندريّة، فوجد المجالس الأدبيّة التي كانت تتحدّث ـ يوم فارَقَها ـ في غزل أبي نؤاس ووصف البحتري وهجاء ابن الرومي، لا يشغلها إلاّ الحديث عن حالة البلاد وتخبّطها في الديون الثقيلة، وفي تدخّل الدول الأجنبيّة في مقدّراتها، وشاهد أعضاء جمعيّة « مصر الفتاة » يجتمعون ويتحدّثون في صراحة وحماسة، وألفى الأدبَ قد تحوّل إلى الكلام في مصالح الأمّة وآلامها وآمالها.وأعدّ النديم نفسه للأدب الجديد، وشحذ قلمه في هذا الاتّجاه، فأخذ يمدّ الصحف بمقالات تصبّ في هذه الموضوعات، فصادف نجاحاً لفت إليه الأنظار (6).
تجسيد القناعاتثمّ جسّد النديم قناعاته، فاتّصل بصديقَين له من مؤسّسي جمعيّة « مصر الفتاة » وأقنعهما بالانفصال عنها، وتبعهما الكثير من أعضائها، ثمّ ذاكرها في إنشاء جمعيّة علنيّة تسعى في ما يعود على الوطن بالمنفعة، فتألّفت « الجمعيّة الخيرية الإسلاميّة »، وصار وكيلاً لها، وكان تدشينه لأوّل مدرسة افتتحتها: هذه الجمعيّة حدثاً تربويّاً هامّاً، خاصّة وأنّ النديم وضع لها برنامجاً يحقّق الغرض من إنشائها، فبلغت هذه المدرسة ـ بما نفخ فيها من روحه ـ ما لم يبلغه غيرها.
المواجهة المكشوفةهجر النديم الكتابة الأدبيّة، واشتغل بالتحرير السياسيّ على الأسلوب الحديث، فحرّر مقالاته في جريدتي « المحروسة » و « العهد الجديد »، وساهم ـ بإشارة من السيّد جمال الدين ـ في تحرير صحيفتَي « مصر » و « التجارة »، إلاّ أنّ الحكومة سرعان ما أمرت باغلاقهما سنة 1879 م.وكان حزب الاصلاح برئاسة السيّد جمال الدين قد نجح في تهيئة الأسباب لخلع الخديوي إسماعيل وإجباره على التنازل في منتصف سنة 1879 م، لكنّ القوى الاستعماريّة سارعت ـ وقد امتلكها الهلع من مغبّة تفاقم الأمور في غير مصلحتها فأقنعت الخديوي توفيق بنفي السيّد جمال الدين بوصفه الرأس المدبّر، وأعان القناصلُ الأجانب الخديويَّ في مهمّته هذه.
تعدّد الجبهاتلقد وجد النديم نفسه ـ في لحظة مصيريّة حاسمة ـ يقاتل في أكثر من خندق؛ فقد كان يجاهد لبثّ الوعي في أوساط الأمّة التي لفّها اليأس واستكانت إلى الخمود والخنوع، ويواصل ـ من جهة أخرى ـ تحريضه ضدّ الاستبداد والطغيان، دون أن ينسى المهمّة الكبرى في محاربة طلائع الاستعمار الكافر ومجاهدة التدخّل الأجنبيّ عبر كتاباته الملتهبة وأسلوبه الجريء المِقدام.وأصدر النديم صحيفة « التنكيت والتبكيت » الاسبوعيّة، ظاهرُها هَزل وباطنها جدّ، فأودعها ما لم يسبقه إليه أحد من كتّاب العرب، واستهدف من خلالها تأنيب المصريّين على ما آلت إليه حالهم، في أسلوب لاذع ساخر.
خطيب الثورةوطفح الكيل، وبلغ التململُ العسكرَ، فقامت في شباط 1881 م حركة الجيش المعروفة بـ « حادث قصر النيل » إثر اعتقال أحمد عَرابي ورفاقه بعد تقديمهم مذكّرةً تطالب باصلاح الجيش، والحدّ من طغيان وزير الحربيّة الشَّركسي.وشرع النديم بالتجوال في البلاد يحضّ على الثورة بخطاباته، وأضحى مستشاراً لأحمد عرابي، فأعدّ للثورة جميع منشوراتها. ثمّ فجّر أحمد عرابي ثورته في التاسع من أيلول 1881 م، فاشترك النديم معه خطيباً للثورة ثمّ محرراً ومديراً لجريدتها. وكان قُبَيل اندلاع الثورة قد استبدل بصحيفة « التنكيت والتبكيت » أخرى سمّاها « الطائف »، ونقل مكانها من الاسكندريّة إلى القاهرة.وبلغت صحيفته من الشهرة شأواً بعيداً (7)، وغَدَت لسان الثورة العرابيّة؛ وطَفِق النديم من على صفحاتها يهاجم الخديوي في اسلوب لاذع لارتمائه في أحضان الأوربيّين، فأضحى لسانَ الأمّة بخُطَبه، وقلمها بصحفه، فساهم في إنماء رأي عامّ مصريّ يؤمن بالحكم وفق طريقة الشورى، ويتطلّع إلى الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسيّ (8).
النديم والاصلاح الاجتماعيلم ينسَ النديم ـ في غمرة الجهاد السياسيّ ـ الاصلاحَ الاجتماعيّ والأخلاقيّ، فحمل بشدّة على الدعارة والقمار والخمور، وأعلن الحرب الشعواء على الرقّ (9)، فرقى بذلك إلى مصافّ كبار زعماء الاصلاح في العصر الحديث.وكان من المؤمّل لهذه الجهود أن تؤتي ثمارها، إلاّ أنّ الثورة خُنِقت ولمّا يشتدّ عودُها بعدُ، فقُبض على زعمائها، ما عدا عبدالله النديم الذي فرّ مُلاحَقاً بأمرٍ صارم بالقبض عليه حيّاً أو ميّتاً.
سنوات الملاحقة والتخفّيأعلنت الحكومة عن مكافأة قدرها ألف جنيه لمن يُخبر عن النديم، والعقوبة القصوى لمن يُخفيه، فذهبت مساعيها أدراج الرياح على مدى سنواتٍ عشر، فأصدرت عليه حكماً غيابيّاً بالنفي المؤبّد.وقد ساعد النديم على نجاحه في التخفّي أمور؛ منها مهارته في التنكّر، واتقانه لما يدّعي، فكان إذا ادّعى أنّه مغربيّ تكلّم بلسان مغربيّ مُبين، أو مدنيّ فكذلك وكان، يطيل لحيته أو يقصّرها حسبما يوافق دعواه، ثمّ استعان بأحد أصدقائه فأشاع أنّ النديم هرب إلى ايطاليا، ونُقل هذا الخبر في جريدة الأهرام فصدّقه الناس.وساعده على التخفيّ أيضاً تعاطف الناس معه، وايمانهم بأنّ المروءة تقضي عليهم إخفاء أمره؛ فوجدنا عُمدة « العتوة » بمديريّة الغربيّة ـ وهو الشيخ محمّد الهَمشريّ ـ يُخفيه في بيته ثلاث سنوات، كما وجدنا مأمور مركز يعرفه فيُعطيه ما معه من نقود، ثمّ يرسم له خطّة السير في طريقه حتّى لا يُضبَط.
المنفيّ المتمرّدأخيراً استطاعت الوشاية أن توقع النديم في شِباكِ السلطة في خاتمة المطاف، ولم يُنجِه من حبل المشنقة سوى الضغوط الشعبيّة، فنُفي بأمر الخديوي توفيق خارج مصر، فاختار « يافا ».واستقبلت « يافا » المنفيَّ المتمرّد العَصِيّ على الترويض، وما أن نفض عنه غبار السفر حتّى امتشق لسانه سيفاً في وجه الانجليز، وأطلقه مندداً بالسياسة العثمانيّة، فاستشاط السلطان غضباً فنفاه من سائر التراب العثماني (10)، ثمّ عرض عليه بعد حين أن يُقيم في الاستانة مع أستاذه السيّد جمال الدين، فذهب إليها، فاستُخدم في ديوان المعارف، ثمّ مفتّشاً للمطبوعات في الباب العالي، في نطاق رقابة السلطان وتحت إشرافه.
الجولة الجديدةشدّ النديم قامته، واستنفر فصول كفاحه الطويل، ليبدأ شوطاً جديداً من جولات المقاومة، وسرعان ما ضاق بأجواء قصر « يَلْدز » ودسائسه ومكائده، فنشبت الخصومة بينه وبين بعض الشخصيات المقرّبة من السلطان.ولم يعقد النديم لسانه كما فعل أستاذه، فأطلقه في خصمه، ووضع فيه كتاباً سمّاه « المسامير »، وما أن بلغ خصمَه أمرُ الكتاب حتّى نقل خبرهَ إلى السلطان وأخبره أنّ فيه أيضاً هجاءً له (11).
خلفيّات الاغتياللم يَطُل الوقت بالنديم حتّى لقي ربّه في عام 1896 م في ظروف غامضة، هي إلى الاغتيال بالسمّ أقرب منها إلى الموت بداء السلّ كما أُشيع رسميّاً في وقته، وكان ذلك في العاشر من اكتوبر عام 1869م.
هنالك قاعدة في كتابة التاريخ قلّ عنها الشذوذ، هي أنّ التاريخ لم يُكتب من وجهة نظر الحكّام فحسب، بل إنّه لم تُؤرّخ الأحداث الكبرى إلاّ بمنظور سياسيّ ـ عسكريّ ضيّق يهتمّ برَجل اللحظة من وجهة دعائيّة صرفة.ووفقاً لهذه القاعدة، فقد احتلّ الدرجة الثانية من سِفر التاريخ الضخم رجالٌ، ربّما لو أُعيدت صياغة التاريخ وفق ضوابط أكثر موضوعيّة، لكانوا أحقّ وأجدر بتصدّر الدرجة الأولى من سواهم.ومن هؤلاء الرجال الأفذاذ: « عبدالله النديم » ودوره في تاريخ مصر والعالم الإسلاميّ في أواخر القرن الميلاديّ المنصرم.
نشأة النديموُلد عبدالله النديم في مرحلة حسّاسة من الحياة السياسيّة في مصر كان الانجليز يمسكون فيها باقتصاد مصر ومصيرها، ويتلاعبون بمقدّراتها، وذلك في سنة 1845م. وهو من أب خبّاز رقيق الحال هاجر من « الشرقية » واستوطن « الاسكندريّة »، فعمل نجّاراً بدار صناعة السفن، ثمّ اتّخذ مخبزاً صغيراً يبيع فيه الخبز.وكان الأب يعرف بالادريسيّ الحَسَنيّ، لأنّ نسبه ينتهي إلى إدريس الأكبر من أسباط الإمام الحسن بن الإمام عليّ بن أبي طالب (1).وقد رغب الأب في أن يصبح ابنه هذا فقيهاً عالماً، فألحقه في سنة 1855 م بالجامع الأنور في الاسكندريّة، فأمضى النديم فيه خمس سنوات يحضر حلقات الفقه والنحو والصرف والأصول، ثمّ ضاق ذرعاً بأسلوب الدراسة، فاختطّ لنفسه طريقاً مغايراً بفعل علاقته بأستاذه الشيخ محمّد الهَمْشَري، وهو مجال الأدب ومطارحة الشعر والزَّجَل.
مخايل النبوغ والذكاءكانت قدرة النديم على الاستيعاب قدرة متميّزة، ومؤهّلاته في الابداع في أوجها وعنفوانها، فراح يغزو المجالس العامّة والخاصّة بزجله وشعره حتّى ذاعت شهرته، ولم تنفع محاولات والده في صدّه عمّا اختطّه لنفسه.ولجأ النديم ـ وقد نفض والده منه يده وتخلّى عنه ـ للبحث عن طريق للكسب، فتعلّم فنّ الاشارات التلّغرافيّة، فاستُخدم بمكتب التلغراف في « بَنْها »، ثمّ نُقل إلى مكتب القصر العالي في القاهرة، حيث تسكن والدة الخديوي إسماعيل، فعرف كيف يعيش الأمراء في ألوان النعيم والترف، كما عرف في بيته وحارثه في الاسكندريّة كيف يعيش الفقراء والعبيد (2).
بدايات الوعيساهمت أروقة السلاطين في تعميق تمرّده على الواقع، وهو الذي تعتمل في حناياه روح جدّه الكبير عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فتنقّل بين مجالس الأدب المختلفة، ثمّ وجد نفسه مشدوداً إلى الأزهر، فتتلمذ على كبار شيوخه وفقهائه ثمّ توثّقت الصلة بينه وبين أدباء مصر، وكتب رسائل في الأدب تُعدّ من روائع النثر (3)، وبقي النديم فترة من الزمن على هذه الحال، فهو في النهار تلغرافيّ يتقبّل الإشارات ويرسلها، وفي الليل أديب يتقبّل نماذج الأدب ويُحاكيها (4).
مع السيّد جمال الدينوقُيّض للنديم أن يكون أحد حواريّي السيّد جمال الدين الأفغاني بعد أن حطّ رحاله في القاهرة سنة 1871 م، فلازمه أربع سنوات كاملة، كان قطافها المرّ غضب القصر عليه وطرده عن وظيفته، فقصد ( المنصورة ) وأنشأ فيها متجراً لم يلبث أن أغلقه، ثمّ نزل على عُمدةٍ من عُمَد الدّقهليّة فأقام عنده يعلّم أولاده، ثمّ توسّط له أحد أصدقائه فعُيّن وكيلاً في دائرة حكوميّة، فأتاح له موقعه الجديد التردّد على القاهرة والعودة إلى مجالس السيّد جمال الدين، وكان السيّد قد تحوّل إلى داعية إلى الاصلاح الدينيّ، وثائر على الظلم الاجتماعيّ والاستبداد السياسيّ والتسلّط الأجنبيّ (5).والتحق النديم بظاهرة السيّد جمال الدين، وتشبّع بأفكارها الثوريّة، وأسَرَه اللهب الثوريّ الذي كان السيّد يُطلقه في هشيم الأوضاع الفاسدة.ولم يتردد النديم لحظة في تلبية طلب السيّد جمال الدين لمّا طلب منه التوجّه إلى الاسكندريّة للتبشير بمبادئ حزبه الجديد « حزب الاصلاح »، وليشارك في تحرير جريدتَي « مصر » و « التجارة »، وليساهم في فضح الحكم ومهازله، فانطلق إلى الاسكندريّة أوائل سنة 1879 م، وعاد إليها وهو أكثر خبرة بالحياة.
في المعتركعاد عبدالله النديم إلى الاسكندريّة، فوجد المجالس الأدبيّة التي كانت تتحدّث ـ يوم فارَقَها ـ في غزل أبي نؤاس ووصف البحتري وهجاء ابن الرومي، لا يشغلها إلاّ الحديث عن حالة البلاد وتخبّطها في الديون الثقيلة، وفي تدخّل الدول الأجنبيّة في مقدّراتها، وشاهد أعضاء جمعيّة « مصر الفتاة » يجتمعون ويتحدّثون في صراحة وحماسة، وألفى الأدبَ قد تحوّل إلى الكلام في مصالح الأمّة وآلامها وآمالها.وأعدّ النديم نفسه للأدب الجديد، وشحذ قلمه في هذا الاتّجاه، فأخذ يمدّ الصحف بمقالات تصبّ في هذه الموضوعات، فصادف نجاحاً لفت إليه الأنظار (6).
تجسيد القناعاتثمّ جسّد النديم قناعاته، فاتّصل بصديقَين له من مؤسّسي جمعيّة « مصر الفتاة » وأقنعهما بالانفصال عنها، وتبعهما الكثير من أعضائها، ثمّ ذاكرها في إنشاء جمعيّة علنيّة تسعى في ما يعود على الوطن بالمنفعة، فتألّفت « الجمعيّة الخيرية الإسلاميّة »، وصار وكيلاً لها، وكان تدشينه لأوّل مدرسة افتتحتها: هذه الجمعيّة حدثاً تربويّاً هامّاً، خاصّة وأنّ النديم وضع لها برنامجاً يحقّق الغرض من إنشائها، فبلغت هذه المدرسة ـ بما نفخ فيها من روحه ـ ما لم يبلغه غيرها.
المواجهة المكشوفةهجر النديم الكتابة الأدبيّة، واشتغل بالتحرير السياسيّ على الأسلوب الحديث، فحرّر مقالاته في جريدتي « المحروسة » و « العهد الجديد »، وساهم ـ بإشارة من السيّد جمال الدين ـ في تحرير صحيفتَي « مصر » و « التجارة »، إلاّ أنّ الحكومة سرعان ما أمرت باغلاقهما سنة 1879 م.وكان حزب الاصلاح برئاسة السيّد جمال الدين قد نجح في تهيئة الأسباب لخلع الخديوي إسماعيل وإجباره على التنازل في منتصف سنة 1879 م، لكنّ القوى الاستعماريّة سارعت ـ وقد امتلكها الهلع من مغبّة تفاقم الأمور في غير مصلحتها فأقنعت الخديوي توفيق بنفي السيّد جمال الدين بوصفه الرأس المدبّر، وأعان القناصلُ الأجانب الخديويَّ في مهمّته هذه.
تعدّد الجبهاتلقد وجد النديم نفسه ـ في لحظة مصيريّة حاسمة ـ يقاتل في أكثر من خندق؛ فقد كان يجاهد لبثّ الوعي في أوساط الأمّة التي لفّها اليأس واستكانت إلى الخمود والخنوع، ويواصل ـ من جهة أخرى ـ تحريضه ضدّ الاستبداد والطغيان، دون أن ينسى المهمّة الكبرى في محاربة طلائع الاستعمار الكافر ومجاهدة التدخّل الأجنبيّ عبر كتاباته الملتهبة وأسلوبه الجريء المِقدام.وأصدر النديم صحيفة « التنكيت والتبكيت » الاسبوعيّة، ظاهرُها هَزل وباطنها جدّ، فأودعها ما لم يسبقه إليه أحد من كتّاب العرب، واستهدف من خلالها تأنيب المصريّين على ما آلت إليه حالهم، في أسلوب لاذع ساخر.
خطيب الثورةوطفح الكيل، وبلغ التململُ العسكرَ، فقامت في شباط 1881 م حركة الجيش المعروفة بـ « حادث قصر النيل » إثر اعتقال أحمد عَرابي ورفاقه بعد تقديمهم مذكّرةً تطالب باصلاح الجيش، والحدّ من طغيان وزير الحربيّة الشَّركسي.وشرع النديم بالتجوال في البلاد يحضّ على الثورة بخطاباته، وأضحى مستشاراً لأحمد عرابي، فأعدّ للثورة جميع منشوراتها. ثمّ فجّر أحمد عرابي ثورته في التاسع من أيلول 1881 م، فاشترك النديم معه خطيباً للثورة ثمّ محرراً ومديراً لجريدتها. وكان قُبَيل اندلاع الثورة قد استبدل بصحيفة « التنكيت والتبكيت » أخرى سمّاها « الطائف »، ونقل مكانها من الاسكندريّة إلى القاهرة.وبلغت صحيفته من الشهرة شأواً بعيداً (7)، وغَدَت لسان الثورة العرابيّة؛ وطَفِق النديم من على صفحاتها يهاجم الخديوي في اسلوب لاذع لارتمائه في أحضان الأوربيّين، فأضحى لسانَ الأمّة بخُطَبه، وقلمها بصحفه، فساهم في إنماء رأي عامّ مصريّ يؤمن بالحكم وفق طريقة الشورى، ويتطلّع إلى الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسيّ (8).
النديم والاصلاح الاجتماعيلم ينسَ النديم ـ في غمرة الجهاد السياسيّ ـ الاصلاحَ الاجتماعيّ والأخلاقيّ، فحمل بشدّة على الدعارة والقمار والخمور، وأعلن الحرب الشعواء على الرقّ (9)، فرقى بذلك إلى مصافّ كبار زعماء الاصلاح في العصر الحديث.وكان من المؤمّل لهذه الجهود أن تؤتي ثمارها، إلاّ أنّ الثورة خُنِقت ولمّا يشتدّ عودُها بعدُ، فقُبض على زعمائها، ما عدا عبدالله النديم الذي فرّ مُلاحَقاً بأمرٍ صارم بالقبض عليه حيّاً أو ميّتاً.
سنوات الملاحقة والتخفّيأعلنت الحكومة عن مكافأة قدرها ألف جنيه لمن يُخبر عن النديم، والعقوبة القصوى لمن يُخفيه، فذهبت مساعيها أدراج الرياح على مدى سنواتٍ عشر، فأصدرت عليه حكماً غيابيّاً بالنفي المؤبّد.وقد ساعد النديم على نجاحه في التخفّي أمور؛ منها مهارته في التنكّر، واتقانه لما يدّعي، فكان إذا ادّعى أنّه مغربيّ تكلّم بلسان مغربيّ مُبين، أو مدنيّ فكذلك وكان، يطيل لحيته أو يقصّرها حسبما يوافق دعواه، ثمّ استعان بأحد أصدقائه فأشاع أنّ النديم هرب إلى ايطاليا، ونُقل هذا الخبر في جريدة الأهرام فصدّقه الناس.وساعده على التخفيّ أيضاً تعاطف الناس معه، وايمانهم بأنّ المروءة تقضي عليهم إخفاء أمره؛ فوجدنا عُمدة « العتوة » بمديريّة الغربيّة ـ وهو الشيخ محمّد الهَمشريّ ـ يُخفيه في بيته ثلاث سنوات، كما وجدنا مأمور مركز يعرفه فيُعطيه ما معه من نقود، ثمّ يرسم له خطّة السير في طريقه حتّى لا يُضبَط.
المنفيّ المتمرّدأخيراً استطاعت الوشاية أن توقع النديم في شِباكِ السلطة في خاتمة المطاف، ولم يُنجِه من حبل المشنقة سوى الضغوط الشعبيّة، فنُفي بأمر الخديوي توفيق خارج مصر، فاختار « يافا ».واستقبلت « يافا » المنفيَّ المتمرّد العَصِيّ على الترويض، وما أن نفض عنه غبار السفر حتّى امتشق لسانه سيفاً في وجه الانجليز، وأطلقه مندداً بالسياسة العثمانيّة، فاستشاط السلطان غضباً فنفاه من سائر التراب العثماني (10)، ثمّ عرض عليه بعد حين أن يُقيم في الاستانة مع أستاذه السيّد جمال الدين، فذهب إليها، فاستُخدم في ديوان المعارف، ثمّ مفتّشاً للمطبوعات في الباب العالي، في نطاق رقابة السلطان وتحت إشرافه.
الجولة الجديدةشدّ النديم قامته، واستنفر فصول كفاحه الطويل، ليبدأ شوطاً جديداً من جولات المقاومة، وسرعان ما ضاق بأجواء قصر « يَلْدز » ودسائسه ومكائده، فنشبت الخصومة بينه وبين بعض الشخصيات المقرّبة من السلطان.ولم يعقد النديم لسانه كما فعل أستاذه، فأطلقه في خصمه، ووضع فيه كتاباً سمّاه « المسامير »، وما أن بلغ خصمَه أمرُ الكتاب حتّى نقل خبرهَ إلى السلطان وأخبره أنّ فيه أيضاً هجاءً له (11).
خلفيّات الاغتياللم يَطُل الوقت بالنديم حتّى لقي ربّه في عام 1896 م في ظروف غامضة، هي إلى الاغتيال بالسمّ أقرب منها إلى الموت بداء السلّ كما أُشيع رسميّاً في وقته، وكان ذلك في العاشر من اكتوبر عام 1869م.